الاثنين، 13 مايو 2013

وجه شوقية

اخفضت شوقية صوت المسجل بناءا على رغبات الجيران الذين لم يكفوا عن الإلحاح طيلة الوقت لتخفض الصوت قليلا كي يستطيعوا النوم.. اولئك القوم الذين لم يملوا من النوم طيلة حياتهم حتى أصبحت كروشهم تسبقهم امتارا الى الأمام دون أن يشعروا بها.. أغبياء.. نسوا قيمة الحياة، والرياضة والمشي وفقدوا متعة كل شيء حتى متعة الجنس الذي اصبح شيئا يحدث فقط بين المتزوجين كي ينجبوا اطفالا ويحدث بين غير المتزوجين سرا في بيار السلالم ليختلسوا المتعة اختلاسا فيختلسها منهم اهاليهم ويزوجوهم ويرغموهم على انجاب الاطفال لتتكرر الدائرة بشكل مقرف وتتحول متعتهم الى مشاهدة التلفاز وهم يرتدون الفانيلة الداخلية والكلوت –لا مؤاخذة-.

راحت شوقية تدندن مع أغنية كل دة كان ليه بعدما ارغمت على اخفاض الصوت وخرجت من الحمام بعدما ارغمت ايضا على اغلاق الماء بعدما سمعت اصواتهم تأتي من فوق: المية يا ست، المية يا شيخة اتقوا الله

فتحت شوقية دولاب الملابس واختارت دون تفكير بنطال جينز وقميص ذو اكمام قصيرة وسترة جلدية سوداء اللون واتجهت الى المرآة لتضع اللمسات الأخيرة، أحمر شفاة داكن، ونظرت الى المرآة لتظمئن على وجود السلسلة الذهبية التي ترتديها دائما وابتسمت وهي تربط شعرها الى الوراء كذيل حصان.

اخذت شوقية حقيبتها السوداء لتضع فيها السجائر ومفاتيح المنزل واوشكت على وضع هاتفها الا انه رن لتفتحه شوقية وتجد المكالمة التي لطالما انتظرتها، ردت بسرعة قبل أن يكمل الهاتف رنته الأولى: ايوة يا خالد ها بسرعة طمني ايه الأخبار؟

رد خالد بتردد: الهجرة متقابلتش يا شوقية، معلش مرة تانية بقا.

بدت شوقية محبطة جدا بعد أن حطت امالها كلها على تلك الهجرة التي ستخلصها من ذلك الحي الذي اصبح مجرد ذكر اسمه على مسامعها يصيبها بالغثيان، بدا صوتها حزينا جدا وردت على خالد: خلاص يا خالد شكرا يا حبيب قلبي، محدش قالك ايه سبب الرفض؟

خالد: سنك

شوقية: ماهي بلد بنت وسخة، هم عايزين مننا ايه؟

خالد: خلاص يا شوقية متضايقيش نفسك، رايحة في حتة النهاردة؟

شوقية: اه كنت خارجة دلوقتي.. رايحة عشان المظاهرة اياها اللي ماهر والباقية عاملينها.

خالد: خلاص ماشي خلوا بالكوا من نفسكوا.. سلام.

اغلقت شوقية الهاتف دون أن ترد بالسلام وتركت المنزل متجهة الى ميدان التحرير تاركة ورائها صوت عبد الوهاب يصدح في الأرجاء.

استقلت شوقية سيارة أجرة متجهة إلى ميدان التحرير وهي تفكر بحسرة في تلك الفرصة العظيمة التي كانت ستنتشلها من هذا العفن المحيط بها والتي ضاعت بسبب انها اتمت السابع والشعرين من عمرها في الشهر الماضي.

اتمت سرحانها عندما اوصلها السائق الى الميدان، دفعت له الأجرة وظلت في مكانها للحظات لتبحث بين الزحمة وهذا الكم الهائل من الناس على اصدقائها، ثم تقدمت بخطوة عندما وجدت عمر واحد من الشلة يكتب على قطعة قماش "شريعة لوطن عادل" وضعت يدها على كتفه لترتسم على وجهه ابتسامة جميلة تتوسط ذلك الكم الهائل من شعر ذقنه وشاربه، انطلق عمر يسلم على شوقية بحرارة ويضرب كفه بكفها ويسأل عن أحوالها

استرسلت شوقية: اومال فين الباقية؟

عمر: اهم متلقحين عندك كل واحد في حتة بيكتب لوحته

شوقية: انتوا جايبيني هنا عشان تكتبوا؟ انتوا متجمعين ليه اصلا؟

عمر: مطالب شعبية.

شوقية: كان غيرك اشطر يا ابو دقن، قال شريعة قال دول ولاد ستين كلب ولا يعرفوا مين اللي خالقهم.

اتجهت شوقية الى ماهر الذي كان منهمكا في كتابة شعارات على لوحته الورقية البيضاء ولم يلحظ وجودها الا عندما ازالت السماعة من احدى اذنيه وصرخت بسخرية: حرية مين يا سي ماهر؟ احا.. احا بالقوي يعني.. ابقى قابلني لو خدتها بلوحتك دي..

ضحك ماهر وازال السماعة الاخرى من الاذن الاخرى ولم يأبه لحديث شوقية عن الحرية.. هو اصلا لا يهتم لرأيها، سألها عن احوالها وعن الهجرة ثم غمس الفرشاة في الحبر الأسود واسترسل: ولا يهمك تيجي غيرها مضايقيش نفسك اصلا، اكتبلك حاجة حلوة على وشك عشان متزعليش؟

ابتسمت شوقية واومأت برأسها كدليل على الموافقة

وضع ماهر الفرشاة بجانب شفتاها وكتب "رقص" واتبعها " موسيقى".

ابتسمت شوقية واكملت مسيرتها في البحث عن الفرد الأخير المتبقى من الشلة ووجدته اخيرا بين مجموعة من البسطاء يقودهم ويفتح اعينهم على شيء يسمى المساواة والعدل والعيش، اقتربت شوقية من ابراهيم ذو الملابس المهلهلة والقميص الأبيض الذي اصبح رماديا من كثرة "الشقى".

توقف ابراهيم عن القاء الشعارات عندما رأى شوقية، تقدم نحوها والقى السلام، دون ان يسئل عن احوالها شهق بعصبية قاطعا كلامها: ايه اللي على وشك دة؟ رقص ومزيكا؟ مزيكا ايه في بلد الخرابة اقصد بلد الغلابة دي؟ واكيد اللي كتب كدة ماهر مش كدة؟ لم ينتظر حتى ان ترد على سؤاله بل سحب الفرشاة التي بجانبه وكتب على جبينها: ابنك يا قدس زي المسيح غريب وعلى خدها الايمن "مساواة".

ضحكت شوقية ولم تأبه لتصرفات ابراهيم وقالت: امتى المظاهرة دي هتبدأ هتاف؟

رد ابراهيم بانفعال: دلوقتي. امسك ابراهيم بكف شوقية وبالكف الاخر لوحته وانطلق لماهر ليغيظه بما قد كتبه على جبين شوقية..

مشيا معا جميعا إلى ان وصلا إلى عمر، عندما رأت شوقية عينا عمر انفجرت ضاحكة وقالت: عايز تكتب حاجة انت كمان؟

عمر: اه طبعا اشمعنى هم يعني، وامسك عمر بالفرشاة وكتب فوق كلمة رقص وموسيقى "قرآن"

بدا ابراهيم حازم عندما قال: مش هنبدأ هتاف ولا ايه؟

رد عمر بالايجاب بينما كان ماهر هائم مع الاغاني في عالم اخر في السماعات التي تعزله عن الحاضر.

تجاهل ابراهيم وعمر سلوك ماهر مما اعتادوا عليه كثيرا وبدأوا في التوجه الى المنصة كي يبدأوا الهتاف.

اوشكت شوقية على التراجع فأوقفها ابراهيم: مش جاية ولا ايه؟

شوقية: سيجارة وجاية هحصلكوا.

هز ابراهيم رأسه واتجه نحو المنصة وبدأ الناس جميعا في الاتجاه الى المنصة والتزاحم بينما حصلت شوقية على سيجارة وضعتها بين شفتيها بينما تبحث عن الولاعة في حقيبتها، بدأت شوقية تصاب بالانزعاج من تدافع الناس حولها، ودفعهم اياها لم يدعها تبحث عن الولاعة بتأن.

بينما الناس يتزاحمون شعرت شوقية بيد تدس بين ساقيها، للحظة لم تدرك ما الذي يحدث، نظرت حولها لترى من الذي مد يده، ولم ترى الا فوج من الناس يتزاحمون وراء بعضهم البعض، توقفت شوقية عن البحث عن الولاعة ووقفت في مكانها بلا حراك، صامتة، منذهلة، ومصدومة.

اسقطت شوقية حقيبتها واخذت منها الشال، لم تفق من سرحانها الا على صوت ابراهيم يناديها من بعيد بأن تأتي كي تأخذ مكانا بينهم قبل أن يمتلأ.

انطلقت شوقية بين افواج الناس باتجاه المنصة، امسك ابراهيم بالمايكروفون وقال هنبدأ الهتاف يا جماعة واسترسل عمر هاتفا بعد ان خطف المايكروفون من ابراهيم "الشريعة الشريعة فين الدين فين الدولة" واقبل الناس بترديد ما قاله عمر ثم اردف ابراهيم قائلا" عيش، مساواة، حقوق" واخيرا ماهر الذي هتف قائلا "حرية حرية" عندما انتهى الناس من ترديد اخر شيء قاله ماهر، رأى ماهر شوقية قادمة فأخبرها في المايكروفون: عايزة تقولي حاجة يا شوقية؟

الناس كانوا هادئين ينتظرون ما سيقوله الشخص المقبل حتى يقوموا بترديده، انتظر ماهر شوقية حتى تقترب اكثر من المنصة وهو يحمل لها المايكروفون.

اقتربت شوقية بخطوات بطيئة من المنصة أكثر ومازالت السيجارة بين شفتيها، وهي في طريقها خلعت السترة السوداء التي كانت ترتديها واقتربت أكثر وشقت طريقها بين الزحمة وهي تفك ربطة الشعر التي تحكم شعرها الى الوراء ورمتها على الارض بينما سقطت السيجارة الغير مشتعلة من بين شفتيها على الارض بجانب ربطة الشعر.
اكملت شوقية توجهها الى المنصة بخطوات ثابتة هذه المرة ثم خلعت قميصها ذو الاكمام القصيرة ورمته ورائها، ثم تبعته بالبنطال الجينز، اقتربت شوقية اكثر قليلا ليصبح بينها وبين المنصة الدَرَجُ الصغير، فأكملت خلع ملابسها، والقت بالملابس الداخلية على الارض ووضعت الشال فوق كتفيها لتغمض عينيها وتجثو على ساقيها ارضا.
في تلك اللحظة صمت الميدان، لم يُسمع منه غير تلك الأصوات، الشهقات التي تلعن هذا المنظر وتلك الفتاة.
كان ماهر مازال ممسكا بالمايكروفون منتظرا شوقية ان تنهض وتقول ما تريد، انتابت المنصة كلها حالة من السكون الغريب، سكون تشابه مع ذلك السكون الذي اغمضت فيه شوقية عيناها لتجثو على ساقيها وتستلقي وترجع بظهرها الى الوراء كأنها أخذت ضجيج العالم معها واستلقت تاركة ورائها أحمر شفاة داكن وسلسلة ذهبية، وشعر طويل يغطي نصف ظهرها العاري وأناس مكبلين بالصمت تأخذ مطالبهم مكاناً على 

 وجه شوقية 
زينب محمد الحبيبي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رسالة ماتيلدا الأخيرة إلى انطوان

حبيبي، سأذهب قبل أن تذهب أنت.. سأذهب قبل أن تمت رغبتك وشغفك، حينها ستبقى العاطفة فقط، وأعلم أنها لن ت...